وكالة أنباء الحوزة ـ عاشت السيدة فاطمة المعصومة مع أخيها الإمام الرضا (عليه السلام) أكثر من عشرين عاماً على أقل التقادير ، إذا ما استبعدنا أن تكون ولادتها في سنة 183هـ، لأنها السنة التي استشهد فيها أبوها الإمام الكاظم (عليه السلام) في قول أكثر المؤرخين ، وإلا فتكون المدة التي عاشتها السيدة فاطمة مع أخيها سبعة عشر عاماً ، و ذلك لأنّ انتقال الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو في خراسان كان سنة 200 هـ وكانت ولادته (عليه السلام) سنة 148هـ كما هو المشهور، وقيل في سنة 153هـ ، (1). فعلى القول بأنّ ولادتها (عليها السلام) كانت سنة 179هـ يكون عمرها الشريف يوم رحلة أخيها من المدينة واحداً وعشرين عاماً، وعلى القول بأن ولادتها كانت سنة 173هـ كما رجّحه بعضهم يكون عمرها آنذاك سبعة وعشرين عاماً.
وعلى أي تقدير فقد عاشت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في كنف أخيها الرضا (عليه السلام) و رعايته مدّة من الزمن تمكّنها من تلقّي التربية و التعليم اللائقين بمقامها على يد أخ شقيق لم يكن في علمه و مقامه كسائر الناس، فهو الإمام المعصوم وهو المربّي و المعلم و الكفيل. و هذه المدة وإن لم تخل من مضايقات عانى منها الإمام الرضا (عليه السلام) الشدائد و المحن بعضها كان محصوراً في نطاق أسرته و أهل بيته ، و هو ما لاقاه الإمام (عليه السلام) من بعض أخوته و عمومته ، حيث اعترض بعضهم على تفضيله و تمييزه عليهم ، و لا نريد الولوج في تفاصيل هذا الموضوع الخاص خشية التعثّر في طريقه، على أنّه لا أثر يترتّب على الخوض في الحديث عنه.
و بعضها كان من بعض من كانوا في عداد شيعة أبيه حيث نجم قرن فتنة الواقفية الذين حليت الدنيا في أعينهم ، فحاولوا قطع الطريق على الإمام الرضا (عليه السلام) ، و ابتدعوا القول بأن الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يمت ، وأنّه غاب و سيعود، و في طليعة هؤلاء علي بن أبي حمزة البطائني، زياد بن مروان القندي ، و عثمان الرواس ، (2)، و أضرابهم من الذين أحدثوا هذه الفتنة وكانوا سبباً مباشراً وغير مباشر في تألم الإمام (عليه السلام) و إيذائه. و بعضها كان من السلطة الحاكمة حيث كانت تتحرّش ـ بين حين وآخر ـ بالإمام وتوعز إلى جلاّديها بالهجوم على بيت الإمام كما سيأتي تفصيله.
أقول: إن هذه الفترة و إن لم تصفُ للإمام (عليه السلام) ولم تخلُ من المضايقات إلا أن من اليقين أن الإمام قام بدوره مربّياً و معلّماً و راعياً و كفيلاً، و في طليعة من ربّاهم الإمام (عليه السلام) و علّمهم شقيقته السيدة فاطمة المعصومة ، فأخذت عنه العلم والمعرفة والفضائل والمناقب، حتى غدت ذات شأن عند الله تعالى كما جاء في زيارتها (عليها السلام)، وأنّ شفاعتها كفيلة بإدخال الشيعة بأجمعهم إلى الجنة، كما تحدّث بذلك جدّها الإمام الصادق (عليه السلام).
و المصادر وإن لم تسعفنا بذكر شيء ممّا تلقّته الأخت من أخيها ، وبماذا حدّثها، وكيفية حديثه إليها، إلا أن لدينا ما يكفي للكشف عن بلوغها مرتبة عالية من العلم والمعرفة والمقام، ومنه قول معلّمها ومربّيها الإمام الرضا (عليه السلام) إذ روي عنه أنه قال: من زار المعصومة بقم كان كمن زارني ، (3). و لا يغيب عن بالنا أن القائل معصوم لا ينطق عن الهوى، وأنّ وراء هذه الجملة على قصرها ما يدلّ على المقام الرفيع في العلم وغيره، ولولا أن السيدة فاطمة المعصومة بلغت من المنزلة مكانة عظيمة لما كان الإمام (عليه السلام) يقول ذلك. على أنّه هل من المعقول أن يقال في حقّها بأنّها معصومة ولا تكون قد بلغت من العلم مكانة يكشف لها الواقع على ما هو عليه، أليست العصمة تستلزم العلم والمعرفة؟!
و مما يؤيّد ذلك ما نقله العلامة الشيخ علي أكبر مهدي پور حكاية عن أحد الفضلاء عن المرحوم السيد أحمد المستنبط عن كتاب كشف اللئالي لابن العرندس الحلي ، و حاصلها : أن جمعاً من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) للتشرّف بلقائه والسلام عليه، فأخبروا أن الإمام (عليه السلام) خرج في سفر وكانت لديهم عدّة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ثم انصرفوا.
و في اليوم التالي ـ وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم ـ مرّوا ببيت الإمام (عليه السلام)، و رأوا أن الإمام (عليه السلام) لم يعد من سفره بعد ، و نظراً إلى أنّه لابدّ لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدموها للإمام (عليه السلام) في سفر آخر لهم للمدينة، فسلّمت السيدة فاطمة (عليها السلام) المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولمّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم . و في أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وهو في طريقه إلى المدينة ، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل، فلمّا نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثاً: فداها أبوها.
فإن صحّت هذه الحكاية فهي تدلّ أولاً : على أن السيدة فاطمة المعصومة عاصرت أباها مدّة طويلة من الزّمن فيكون القول بأنّ ولادتها سنة 183هـ أو 179هـ غير صحيح قطعاً.
و ثانياً: تدلّ على المقام العلمي الرفيع الذي بلغته السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، بل كما قال الشيخ مهدي پور إنّه دليل على أنّها عالمة غير معلّمة، هذا مع التوجه إلى أنّها كانت صغيرة السن آنذاك ،(4). ولئن لم يحفظ لنا التاريخ خصوصيّات ما تلقّته من العلم على أيدي أبيها وأخيها إلا أنه أبقى بين طياته نزراً من الروايات التي حدّثت بها هذه السيدة الجليلة. و مما لا شك فيه أن علم الحديث من أجلّ العلوم وأشرفها، فهو العلم الجامع للتفسير والفقه والأخلاق والكلام وغيرها من سائر المعارف الدينية.
ويعود انتشار معارف الدين و بقاؤها إلى هذا العلم الجليل ، و قد قام علماء الشيعة بمساندة أئمتهم (عليهم السلام) بتعاهد هذا العلم حفظاً و تنقية و تبويباً ، حتى وضعوا الموسوعات الروائية ، و اشتهرت بينهم جملة من الكتب أصبحت فيما بعد مرجعاً للشيعة يستقون منها معارفهم الدينية المختلفة ، و عليها تدور رحى مباحثهم العلميّة ، كالكتب الأربعة وغيرها من الكتب الكثيرة. كما تعاهد علماء الشيعة بالبحث والتحقيق أسانيد تلك الأحاديث ، و وضعهم الضوابط العلمية الرّصينة و المقاييس الدقيقة لمعرفة أحوال الرواة و طبقاتهم و مدى إمكان الاعتماد على رواياتهم و عدمه وانبثق عن ذلك علم آخر ، اقترن بعلم الحديث و هو علم الرجال، فوضع علماء الشيعة معاجم الرجال لدراسة أحوالهم من حيث الوثاقة و عدمها ، و اشتهار هذا العلم باسم الرجال لا يعني اختصاصه بهم ولا نصيب فيه للنساء ، و إنما كانت التسمية مراعاة للغالب على من تمرّس في هذا العلم ، و إلا فهناك من النساء اللائي بلغن مرتبة عالية في هذا العلم ، ولم تغفل المعاجم التي تناولت أحوال الرواة عن ذكرهن والإشادة ببعضهن وبيان طبقاتهنّ من حيث سلسلة السند، حتى أنّ الأجلاء من رواة الحديث قد رووا عن بعضهنّ، وفي طليعة أولئك النسوة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).
ولكن ممّا يثير الغرابة أن لا نجد ترجمة لهذه السيدة الجليلة و المحدثة العظيمة في المعاجم التي عنيت بضبط أسماء الرواة ، ولذا ذكرها الشيخ النمازي في مستدركاته مشيراً إلى المواضع التي ذكرت فيه من كتب البحار ، (5) فقط ، مع أنّ أصحاب هذه المعاجم قد ذكروا نساءً أقل شهرة منها، وربّما أقل حديثاً، ولم ندر ما هو الوجه في ذلك؟! ، و على أي حال فقد كانت هذه السيدة الجليلة من المحدّثات، و ورد ذكرها في أسانيد رواها العامّة فضلاً عن الخاصّة ، منها ما ورد في كتاب المسلسلات لأبي محمد جعفر بن أحمد بن علي القمي ، قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسين ، قال : حدّثني أحمد بن زياد ، قال : حدّثني أبو القاسم جعفر بن محمد العلوي العريضي ، قال : قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن خليل ، قال: أخبرني علي بن محمد بن جعفر الأهوازي ، قال : حدّثني بكير بن أحنف ، قال : حدّثتنا فاطمة بنت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، قالت : حدّثتني فاطمة، و زينب ، و أم كلثوم بنات موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، قلن : حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قالت : حدّثتني فاطمة بنت محمد بن علي (عليه السلام) ، قالت: حدّثتني فاطمة بنت علي بن الحسين ، قالت: حدّثتني فاطمة و سكينة ابنتا الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أم كلثوم بنت عليه (عليه السلام)، عن فاطمة بنت رسول الله، قالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة ، فإذا أنا بقصر من درّة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلّل بالدرّ و الياقوت ، و على الباب ستر ، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب : لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي وليّ القوم، و إذا مكتوب على الستر بخ بخ من مثل شيعة علي (عليه السلام)، فدخلته، فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوّف ، وعليه باب من فضّة مكلّل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: محمد رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشّر شيعة علي بطيب المولد، فدخلته، فإذا أنا بقصر من زمرّد أخضر مجوّف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكلّلة باللّؤلؤ، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعة علي هم الفائزون، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا ؟، فقال: يا محمد لابن عمّك ووصيّك علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحشر الناس كلّهم يوم القيامة حفاة عراة إلا شيعة علي (عليه السلام)، و يدعى الناس بأسماء أمّهاتهم إلا شيعة علي (عليه السلام)، فإنّهم يدعون بأسماء آبائهم، فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك؟ قال: لأنّهم أحبّوا عليّاً فطاب مولدهم ،(6).
و منها: ما رواه محمد الجزري في أسنى المطالب بإسناده عن علي بن محمد بن جعفر الأهوازي ، مولى الرشيد، عن بكر بن أحمد القصري، عن الفواطم، عن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قالت: « أنسيتم قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ وقوله (صلّى الله عليه وآله): أنت منّي بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) » (7).
وقد عرف هذا النحو من الإسناد بالمسلسل ، وهو فن من فنون الضبط وضرب من ضروب المحافظة ، وفيه فضل للحديث من حيث الاشتمال على مزيد ضبط الرواة(8) وعرّفه المحق الدّاماد بأنّه هو ما تتابع فيه رجال الإسناد عند روايته على قول كسمعت فلاناً يقول: سمعت فلاناً.. أو أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله، إلى آخر الإسناد ، (9). وذكر أكثر من خمسة عشر نحواً من أنحاء تتابع الرواة عند رواية الحديث. على أن هذين السندين عن فاطمة (عليها السلام) مسلسلان من وجه آخر وهو أن كل واحدة من الفواطم تروي عن عمّة لها، فهو رواية خمس بنات أخ، كل واحدة منهنّ عن عمّتها. هذا وهناك روايات أخرى كانت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في أسنادها وبعضها مسلسلة على النحو المتقدم.
وخلاصة القول أن هذه السيدة الجليلة نالت قسطاً وافراً من العلم والمعرفة، قد تلقته من معدنه الصافي، وأخذته من منبعه العذب، حتى غدت ذات شأن ومقام وإن لم يصلنا منه إلا النّزر اليسير.
---------------------
الهوامش
1 - منتهى الآمال: ج2، ص403.
2 - معجم رجال الحديث: ج12، ص235-236.
3 - رياحين الشريعة: ج5، ص35.
4 - كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص62-64.
5 - مستدركات علم رجال الحديث: ج8، ص593-594.
6 - كتاب المسلسلات، ص250-251.
7 - كتاب المسلسلات، ص272-273.
8 - أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ص353.
9 - الرواشح السماوية، الراشحة السابعة والثلاثون، ص157-161.
* موقع التبيان